التعديل من حيث جذوره ليس مفهوما قانونيا و انما دخل العلوم القانونية بصورة متأخرة قادما من عدة علوم أخرى. فقد برز مفهوم التعديل خاصة في علوم البيولوجيا و الميكانيك و الإلكترونيك و العلوم السيبرنية و يعني التعديل في هذه المجالات آليات جعل حركة أو سير آلة أو قوة الدفع أو الجسد منتظمة و متوازنة.
أما على المستوى الاقتصادي و المؤسساتي فقد برز مفهوم التعديل و كذلك الهيئات التعديلية منذ القرن التاسع عشر في الولايات المتحدة خاصة في قطاعات الاقتصاد و التجارة و المنافسة و الاتصالات .
حيث أحدثت لجنة التجارة بين الولايات Interstate commerce commission منذ سنة 1887
ثم انشأت اللجنة الفيدرالية للتجارة
و بعد ذلك انتشرت الهيئات التعديلية و برزت خاصة في بلدان أوروبا الشمالية و المملكة المتحدة قبل أن تنتشر في بقية بلدان العالم انطلاقا من أواخر سبعينات و خلال ثمانينات و تسعينات القرن الماضي.
وفي الحقيقة تبدو الهيئات التعديلية كيانا قانونيا غير محدد الهوية بوضوح. فالهيئات التعديلية تتزايد و تنتشر و تتوسع دوليا و وطنيا في مناخ يتميز اجمالا بالترحيب و حتى الحفاوة و تتزايد مكانتها المؤسساتية و القانونية لتصل الى حد التكريس الدستوري لعدد منها رغم غموض و ضبابية المفهوم و غياب تعريف قانوني دقيق سواء في القانون التونسي أو في التشريعات الأجنبية.
و غموض هذه الهيئات مترتب عن مجموعة من المعطيات أهمها في اعتقادنا :
- ضبابية مفهوم التعديل نفسه
- الصبغة المستحدثة للهيئات التعديلية على منظومتنا القانونية.
- ارتباط بروز هذه الهيئات بتوجه و حركة عميقة و شاملة و حتى عالمية في مجال حوكمة الشأن العام عموما و حوكمة الاقتصاد خصوصا أدت الى مراجعات و تطورات متسارعة و متحركة لدور الدولة و علاقتها بالسوق من جهة و بالمجتمع ككل من جهة أخرى.
هذه العوامل و المعطيات تجعل من الهيئات التعديلية كيانا قانونيا من صنف جديد لا يمكن مقاربته بالمفاهيم و المؤسسات و المنظومة القانونية و حتى السياسية التقليدية السائدة لحد الآن.
و تمثل الهيئات التعديلية صنفا متميزا من الهياكل العمومية كثيرا ما تثير التساؤل حول طبيعتها و تموقعها في المنظومة المؤسساتية .
و تكتسي الهيئات وظيفة التعديل أحد أهم خصوصيات الهيئات التعديلية التي تميزها عن وظائف الإدارة التقليدية . فبينما تتمثل الوظيفة الرئيسية للإدارة التقليدية في تنفيذ القانون و تكريس خيارات السلطة السياسية من خلال نشاطات الضبط (وضع قواعد و اتخاذ قرارات تطبيقية) و المرفق العام (تقديم خدمات ) و التي تمثل كلها في نهاية الأمر تنفيذ و انفاذ القانون فإن الهيئات التعديلية لا تكتفي بتطبيق القانون بالمعنى الضيق و تتجاوزها الى وظيفة أكثر خصوصية و اتساعا تتمثل في التعديل و التي تهدف من خلال عدد من القواعد الى ارساء توازن بين عدة نشاطات و حركات بهدف ضمان استقرار منظومة و توازنها و بالتالي تواصلها و استمراريتها.
تعديل الإعلام: أية خصوصيات ؟
بصورة عامة يمكن تعريف التعديل بأنه وظيفة تهدف لضمان استقرار و توازن منظومة ما و عند الضرورة اعادتها.
يتميز تعديل الإعلام عن بقية أصناف و مجالات التعديل بأنه ليس فقط ضمان للمنافسة و للتوازن الاقتصادي بين مختلف المؤسسات الإعلامية و انما بتعلقه خاصة بالحريات العامة و في طليعتها حرية التعبير .
عموما يمكن تقسيم تعديل الإعلام و الاتصال الى ثلاثة فروع :
- العمل على احترام القواعد الاقتصادية من جهة بما يعنيه ذلك خاصة من مقاومة تركيز ملكية وسائل الإعلام و مواقع الهيمنة الاقتصادية ، و ارساء التوازن بين مختلف المؤسسات و المتدخلين الناشطين في القطاع . و من هذه الزاوية لا يتميز التعديل باعتباره تعديلا لقطاع اقتصادي.
- و لكن الإعلام ليس مجرد قطاع اقتصادي و ليس قطاعا كالقطاعات الأخرى و انما هو قطاع وثيق الارتباط بالحريات و لذلك فإن تعديله فضلا عن بعده الاقتصادي هو أساسا تعديل للحريات من حيث حمايتها و تعزيزها و تأطيرها. و لذلك يهدف تعديل الإعلام الى ضمان حرية التعبير و التعددية في الراي و الإعلام و الى حماية استقلالية المؤسسات الإعلامية و الصحفيين من مختلف الضغوطات و التضييقات التي يمكن ان تمارسها مختلف القوى السياسية و الاقتصادية بهدف اخضاعه و توظيفه بشكل يضر بمصداقية الإعلام و المصلحة العامة و حق المواطنين في اعلام مهني ونزيه. و قد ذهب المجلس الدستوري الفرنسي منذ سنة 1984 الى اعتبار الهيئة التعديلية المستقلة للاتصال السمعي البصري ضمانة أساسية لممارسة حرية عامة.
- السهر على احترام قواعد أخلاقيات المهنة لضمان اعلام مهني وموضوعي ومتوازن و الحماية من الانحرافات و التجاوزات خاصة على مستوى مضامين المادة الإعلامية و اساليب العمل الإعلامي .
و تجد خصوصية التعديل في قطاع الإعلام اسسها في أن هذا القطاع يواجه تأثيرات و ضغوطات متنوعة و متعددة الأطراف. فلئن كان تدخل الدولة يمكن أن يحمي حرية التعبير و الإعلام و الاتصال من ضغوطات المصالح الاقتصادية فإنه يحمل مخاطر الوصاية السياسية و لذلك فإن التعديل المستقل يمثل حلا وسطا يمكن من الحماية من ضغوطات الدولة كما من اللوبيات الاقتصادية و المالية و دعم استقلالية الفاعلين في القطاع مؤسساتا و أفرادا.
و تعنى الاستقلالية قيام الأفراد، أو الهيئات، بإنتاج الفعل غير المملى، وغير الموجه من أي جهة كانت، وكيفما كانت هذه الجهة، وبناء على اقتناع معين يسعى لبناء رؤيا تهدف الى خدمة المصلحة العامة، تجاه القضايا الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، ودون تحيز إلى هذه الجهة، أو تلك، ودون رغبة في تحقيق غاية معينة، يلتمس من ورائها إرضاء هذه الجهة، أو تلك. و يطرح هذا المفهوم ضرورة احترام الممارسة الديمقراطية بمضمونها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والمدني، والسياسي، مما يتيح الفرصة أمام ممارسة الإعلام المستقل.
وانطلاقا من هذا التصور لاستقلالية الإعلام فإن التعديل يسعى إلى:
- أن لا يكون الإعلام منبرا لوجهة نظر الدولة بسلطاتها الثلاث و خاصة التشريعية و التنفيذية تجاه القضايا الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، ولكنه، في نفس الوقت، معني بالإخبار عن ما تقوم به الدولة في مختلف المجالات، دون تحديد موقف معين من ذلك.
- أن لا يكون منبرا للحكومة بمعنى السلطة التنفيذية، التي يتحكم فيها حزب معين، أو مجموعة من الأحزاب، حتى يتأتى الابتعاد عن احتواء الحكومة، أو حزبها، أو أحزابها له، وحتى يتمكن من تجسيد الحياد اللازم تجاه العمل الحكومي، وتجاه أحزاب الحكومة.
- أن لا يكون منبرا لحزب معين، أو لمجموعة من الأحزاب المعارضة للحكومة، حتى يبقى بعيدا تماما عن الانحياز إلى المعارضة كيفما كان شكلها.
وحياد الإعلام المستقل، لا يمنع من أن يكون مجالا لعرض ما تقوم بها الدولة، والحكومة بأحزابها المختلفة، وما تقوم به أحزاب المعارضة، بالإضافة إلى ما تقوم بم منظمات المجتمع المدني، دون تحيز لأي منها. وبذلك تكون استقلالية الإعلام مجسدة على أرض الواقع، وعلى جميع المستويات، حتى يتأتى لها القيام بدورها كاملا في خدمة المعلومة المجردة إلا من الانحياز إلى خدمة الحقيقة ، التي تساهم في رفع وعي جميع أفراد المجتمع، على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. و هذا ما يحتاجه الإعلام العمومي بالخصوص باعتباره المهدد أكثر من غيره من ميل من يمسك السلطة الى الإفراط فيها .
و تعاني ثقافة التعديل من هشاشة حقيقية نظرا لإرث تميز بتغييبها كليا و لسياق انتقالي ، رغم ما تحقق فيه من خطوات وتطورات مهمة ما زالت الأطر القانونية و المؤسساتية المنظمة للمشهد الإعلامي و الحامية لحريته لم ترسخ و تتدعم بشكل نهائي وبالنسبة لبعض اصناف الإعلام كالمكتوب و الإلكتروني لم ترسى أصلا.
من أجل تونس حيث يمكن للجميع العيش بكرامة