منسّقة قسم “دولة القانون” بمنظمة سوليدار – تونس.
خلّف الانتشار السّريع والمفزعُ لفيروس كورونَا منذ بداية السنة الجديدة حالةً من الشّلل في العالم كله الذي وجدَ نفسه عاجزَا عن وضع حدٍّ لهذا الوباءِ، إلاّ من خلال اللجوء إلى إجراءات وقائيّة أبرزها الالتزام بالحجر الصحّي بغاية تطويقِ الفيروس والحيلولة دونَ انهيار الأنظمة الصحيّة التي صارت عاجزةً عن استقبال المرضى وتوفير العناية اللازمة لهم.
غير أنَّ هذه الأزمة كشفت عن وجهٍ آخر لها لا يقلُّ خطورةً. فكمَا دفعتنا إلى الوقوف عند ضرورة طرح الإشكاليات المتعلّقة بالخدماتِ الصحية وأنظمة التغطية الصحيّة وتقييم السياسات العامّة المتّبعة في مجال الصحة وأهميّتها في ضمان سلامتنا، فهي تدعونَا للوقوف عندَ كلِّ ما يهدّد سلامتنا، النفسيّة والجسديّة، لأنّنا اكتشفنا بمناسبتها حجمَ العنفِ الذي نواجهُ، وتشحنه الأزماتُ المماثلة. فيُخلّف في مجتمعاتنا ضحايًا أكثر من ضحايا الكورونا ويمسُّ شرائحَ أكبرَ. ويذري آثارًا أعمق وأطول امتدادا في الزّمن، عنفٌ يتقاطع مع “كورونا” في أكثر من موضعٍ. في هذا المقال سأقوم بعرض ثلاثة أبعاد لأزمة كورونا.
الكورونا والموت: الذكوريّة
ارتفعت البلاغات الواردة من النّساء حول تعرّضهنّ للعنف منذ بداية الحجر الصحّي إلى ما يقارب الخمس مرّات1. ما دفع كلاّ من الجمعيّات الحقوقيّة والنسوية من جهة ووزارتي المرأة والداخليّة إلى إطلاق حملات توعويّة ضدّ العنف المسلّط على النّساء وتنشيط الآليّات التي أقرّها القانون لإنصافِ ضحايا العنف وحمايتهم من المعنّفين. إلاّ أنَّ أزمة كورونا نبّهتنا هذه المرّة إلى أنّه ربّما يكون الأوان قد آنَ لنوجّه جهودنا إلى الوقاية من جرائم العنف، لأنّ مؤاخذة الجناة – على أهميّتها في إنصاف الضحايا – لن تحولَ بينهنَّ والموت2.
كرّس القانون عدد 58 لسنة 2017 المتعلّق بالقضاء على العنف ضدّ المرأة إجراءاتٍ خاصّة لتتبّع المعنّفين ومحاكمتهم. لعلّ أحد أبرز مزاياه التي لم نقطف ثمارها بعدُ، هي تأكيده على جوهرية الوقاية للقضاء على العنف المسلّط على النساء عبر إعادة صياغة برامج التنشئة والتعليم والثقافة والإعلام على مبادئ حقوق الإنسان والمساواة الكاملة والفعلية بين المرأة والرجل ومكافحة كافّة أشكال التمييز التي تهيّء البيئة اللازمة لشرعنَة العنف ضدّ النّساء والتطبيع معه. وليسَ هذا الأمر بالهيّن بلا شكِّ لأنّ تغيير البُنى الثقافيّة من أعقدِ العمليّات وأحوجها للوقت والمراكمة. إلاّ أن ذلك سبب إضافي لنعلنَ، دون تأخيرٍ، البدءَ في تشييد هذا البناء الجديد ومنحه أولويّة قصوى اليوم، طالما نبّهتنا هذه الأزمة إلى أنَّ “الذكوريّة” يمكن أن تكون قاتلةً تمامًا كما الكورونا، وأنَّه إذا كان من الممكن أن نتجنّب الموت بالإصابة بفيروس كورونا عبر ملازمة بيوتنا، فإنّ عددًا غير قليلٍ من النساء معرّضاتٌ للموتِ أكثر وهنَّ في بيوتهنّ حيث يجب أن يشعرن بالأمان أكثر من أيِّ مكانٍ آخر.
الكورونا والخوف: التعسّف في استعمال القوّة
ارتبطت جائحة كورونا بالخوفِ أكثر من أيِّ شعورٍ آخر. إذ سيطر الخوفُ على كلّ المشاعر الأخرى ونحن نتابعُ تقدّم هذا “العدوّ الذي لا يُقهر دونَ حولٍ ولا قوّةٍ منا على مواجهته. ومع ذلك، استطاعت الهرسلة البوليسيّة سرقة نصيبٍ من الخوف لصالحها عندما استفقنا على أنَّ هذا الوضع الاستثنائي منحَ أعوان الأمن صلاحياتٍ ونفوذًا أكبر لبسط الأمن واحترام الحجر، والتي يتعطّش فريق منهم لاستعمالها تعسّفيا لاسترجاع عهدهم بالانتهاكات وسوء المعاملة اللّذان لجمتهما الديمقراطية. الانتهاكات التي رافقت الأيام الأولى للحجر الصحي كانت خطيرة، إذ تمّ تسجيل اعتداءات بالعنف ضدّ مواطنين مخالفين كما ضدّ آخرين حاملين لتراخيصٍ استثنائية للتنقل. ولم تكن كذلك فقط لأنّها أعلنت عن إخفاقٍ نسبي لجهود عظيمة بُذلت خلال السنوات الأخيرة بهدف إصلاح المنظومة الأمنيّة وأنسنَةِ السلوك الأمني وإخضاعه لسلطة القانون، وإنّما خاصّة لأنّها كانت تجد في هذا الوضع الخاصّ تبريرًا، الأمر الذي بلغَ اعتبار الديمقراطية في حالة “تعليق” حتى انزياح الكورونا. لذلك سارعت الجمعيات الحقوقية إلى إعلان حملة من اليَقظة لرصد الانتهاكات والتدخّل لصالح الضحايا والمتضررين بهدف ترسيخ القناعة بأنَّ الأوبئة، أو غيرها، لا يمكن أن تكون عذرا لتعليق الديمقراطية، بل أنَّ الديمقراطية تخلقُ آليات ديمقراطيةً بالضرورة للتصدي إلى الظروف الطارئة والخطيرة.
إنَّ الخوف الذي خلقته الكورونا، يضاهي الخوف الذي يزرعه التعسف في استعمال القوة ويقتاتُ عليه بهدف جعل الوطن سجنًا كبيرا، يُحجَر فيه المواطنون و ُحجّر عليهم “الكرامة”. هذا الحجر الذي لا ينبغي الالتزام به – والشعوب وحدها – بإرادتها الحرّة والكاملة هي من تحدّد موعد رفعه.
الكورونا والإهانة: الفقر
ارتبطت الأوبئة في أذهان العالم بالإهانة والنبذ. وربّما كان مبعث الخوف في أكثر الأحيان هو الإهانة التي تقترن بالإصابة بالوباء وليس الموت. فتاريخ الأوبئة حافل بما اُقترف في حقّ المصابين من انتهاكات ونفيٍ وإقصاء. غير أنّ الكورونا أثبتت أنّ الإهانة التي يسبّبها الفقر وتغذيها الحاجة أسوأ من أيِّة إهانة أخرى. إذ على الرّغم من أنّ التونسيين كانوا يرتعدون من فكرة “الوفاة” دون جنائز أو طقوسٍ للوداع، لم يمنعهم ذلك من الوقوف في صفوف لا نهاية لها في انتظار مساعدات تخفّف عنهم الأزمة الخانقة التي تسبّب فيها الحجر الصحي3. كشفت الكورونا توسّع الفئات الهشّة وعمقَ الفوارق الاجتماعية التي تجعل هواجس المواطنين متباينة إزاء هذه الأزمة4.
وساهم المدّ التضامني المواطني في دفعنا إلى التساؤل أكثر عن مسؤوليّة الدولة وموقعها في هذه المعضلة الاجتماعية المتفاقمة. الفقر هدّد ويهدّد بخرق الحجر العام وتعريض البلاد كافّة لكارثة تطالُ الجميع بلا استثناء، وهي بلا شكّ صورة رمزيّة بالغة المعاني ورسالة يجب التقافها من الجهات المسؤولة ووضعها نصب أعينهم عند وضع السياسات العامة وتحديد الأولويات في المرحلة اللاحقة للتعامل مع فيروس كورونا: هل نضحّي بالفئات الأكثر تضرّرا ، كالعادة، لرتقِ الأضرار أم نعيدُ البناءَ من جديد تحت عنوان “العدالة الاجتماعية” لأنّ أيّ عنوانٍ آخر لا يُراعي حقوقهم يهدّد كلّ الأبنية بالهدم لأنّ الفقر باعث للإهانة ..والإهانة مولّدة للغضب ..والغضب لا ينتقي ضحاياه ..كما لا تفعل الكورونا.
.
1 صرّحت وزيرة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السن والناطقة الرسمية باسم الحكومة السيدة أسماء السحيري بأنّ عدد الإشعارات المتعلقة بالعنف المسلط على النساء تضاعفت خمسَ مرات خلال فترة الحجر الصحي.
2 سجّلت الفترة الأخيرة أكثر من جريمة قتل ومحاولة قتل وما تزال حياة بعض النساء معرّضة للخطر جرّاء آثار العنف الذي تعرّضن إليه.
3 شُلّت الحياة الاقتصادية بسبب قرار الحجر الصحي العام ما وضع فئات عريضة من التونسيات والتونسيين في حالة من العطالة القسريّة التي تهدّدهم بالجوع والبقاء بلا مأوى ولا دواءٍ. حاولت الحكومة التونسية التقليص من أثر هذه الأزمة على هذه الفئات الهشّة عبر إقرار مساعدات استثنائية تمَّ الإعلان عنها ضمن الإجراءات الخاصة لمكافحة كورونا.
4 تُقدّر وزارة الشؤون الاجتماعية أن نسبة الفقر في تونس بلغت 15,2 بالمائة.
POUR UN PAYS JUSTE, PROSPÈRE, MODERNE, TOURNÉ VERS LE FUTUR