برزت الهيئات المستقلّة في البداية على شكل هيئات إداريّة مستقلّة، ثم تحوّلت إلى هيئات عموميّة مستقلّة وفي الأخير تحولّت إلى هيئات دستورية مستقلّة. وتمثّل الهيئات المستقلّة شكلا جديدا من التنظيم للهياكل العموميّة يجمع بين بعض القواعد الديمقراطية والتصرّف الإداري الحديث تقوم على مفاهيم النجاعة والحياد والشفافيّة في إدارة الشأن العام. ويدفع هذا البروز إلى إعادة النظر في أسس قيام الإدارة، وفي مبادئ التنظيم الإداري و السياسي للدولة إذ أنه جاء كإجابة لأزمة مشروعيّة الدولة انطلاقا من سنوات السبعينات، وتحديدا لأزمة الثقة تجاه الدولة، وخاصة تجاه الأساليب التقليدية للتدخّل في المجال الاجتماعي والاقتصادي، وكانت الحجج تتراوح بين جانبين، الأوّل هو أن الدولة أثبتت عدم قدرتها على الاستجابة لخصوصية بعض القطاعات، والثانية، هي النزعة السلطوية التي هدّدت بعض الحقوق والحريات الأساسيّة. لكن لم يبلور المشرع نظرية متكاملة لهذا الصنف الجديد من أشخاص القانون العام"، مما ساهم في عدم أخذها الحجم الذي تستحقّه.
ولئن تباينت طريقة تعيين أعضاء الهيئات الدستوريّة في النظم المقارنة بين إسناد تلك المهمّة إلى السلطة التنفيذيّة بالنظر إلى الطبيعة الإداريّة لمهام تلك الهيئات ولسابق إدارتها من قبل السلطة التنفيذيّة، أو إسنادها إلى السلطة التشريعيّة باعتبار تمتعها بمشروعية انتخابية، أو توزيع لصلاحية التعيين بين تلك السلطتين مع توجه المشرع الفرنسي، خلال السنوات الأخيرة، نحو إسناد صلاحيات أوسع للسلطة التشريعيّة في تعيين أعضاء تلك الهيئات ومنحها حق الاعتراض عن مقترحات السلطة التنفيذيّة بخصوص اختيار مترشحين لعضوية مجال الهيئات المستقلّة، فإن المؤسّس التونسي ذهب، منذ مفتتح أشغاله، إلى اعتبار أن "السلطة التشريعيّة هي الطرف المؤهل لانتخاب " أعضاء تلك الهيئات" لتمتعها بشرعية الديمقراطية" على أن يتم إحالة مسألة تحديد تركيبة المجالس وكيفية اختيار الأعضاء إلى القوانين الخاصة بكل هيئة.
ولضمان عدم هيمنة حزب أو جهة سياسية معينة على عمليّة اختيار أعضاء الهيئات المستقلّة، فإن أغلب التقارير والدراسات في هذا المجال توصي بأن يتم انتخاب أعضاء مجالس الهيئات بأغلبية معززة وهو ما تم إقراره صلب الدستور مع الإحالة إلى السلطة التشريعيّة مسألة كيفية اختيار وانتخاب أعضاء مجالس الهيئة.
وتجدر الإشارة إلى أن اعتماد أغلبية معززة في طريقة انتخاب واختيار أعضاء مجالس الهيئات يعد شرطا ضروريا لضمان عدم هيمنة حزب أو جهة سياسية على عمليّة الاختيار الأعضاء لكنه غير كاف لضمان اختيار مترشحين من ذوي الكفاءة والنزاهة على النحو الذي اقتضاه الدستور والنصوص القانونيّة المتعلقة بالهيئات الدستوريّة، ضرورة أن عمليّة اختيار المترشحين وانتقائهم يجب أن تتم وفق إجراءات شفافة وتستند إلى موضوعية والتقيد بما تفضي إليه عمليّة الفرز والتقييم ملفات المترشحين في مختلف مفاصل إجراءات اختيار وانتخاب الأعضاء.
ولئن اعتمد المشرع التونسي آلية فرز وتقييم ملفات المترشحين لعضوية مجالس الهيئات وفق سلم تقييمي لترتيب وضبط القائمة الأوّلية للمترشحين المقبولين أوليا والتي تتم إحالتها على الجلسة العامة للمجلس النيابي لانتخاب الأعضاء حسب الاختصاص فإنه ثبت في المقابل عدم تقيد لجان الفرز بما تفضي عمليّة التقييم وفقا للمعايير المضمنة بالسلم التقييمي وهو ما يعد إهدارا لضمانة أساسية أقرها المشرع لضمان توفر شرط الخبرة والكفاءة لدى العضو المترشح وهو ما ينال من شرعية أعمال تلك اللجان ويصيرها عرضة للإلغاء من قبل القاضي الإداري .
ويتبين بالاطلاع سواء على القانون المتعلق بالهيئة العليا المستقلّة للانتخابات أو بهيئة الحوكمة الرشيدة ومقاومة الفساد أن المشرع ولئن اعتمد آلية الترشح المفتوحة فإنه أسند عمليّة فرز مطالب والترشح والبت فيها إلى لجنة خاصة بالمجلس التشريعي التي تعكس تمثيلية الأحزاب بالمجلس المذكور والتي تتولى ضبط سلم تقييمي يعتمد جملة من المعايير لتقدير عنصر الكفاءة والخبرة لدى المترشحين وترتيبهم حسب الجدارة وإحالة قائمة في ذلك حسب الاختصاص إلى الجلسة العامة. ولئن اقتضى الفصل 37 للقانون الأساسي عدد 59 لسنة 2017 المتعلق بهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في فقرته الثانية أنه "تتولى اللّجنة المكلفة طبقا للنظام الداخلي لمجلس نواب الشعب تلقي الترشحات والبتّ فيها طبقا لسلم تقييمي يضبط للغرض وفق معايير موضوعية وشفافة ويتم نشره بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عند فتح باب الترشحات" بما يفيد ضرورة اعتماد معايير موضوعية وشفافة صلب السلم التقييمي وضرورة التقيد بهذا السلم في عمليّة تقييم الملفات وترتيب المترشحين فإن ذلك الإجراء يبقى محدود وغير كاف لضمان اختيار الأجدر ومن ذوي الكفاءة ضرورة أن الجلسة العامة غير مطالبة بالتقيد أثناء تصويتها بترتيب المترشحين حسب كل اختصاص وهو ما يبرز من نتائج عمليّة التصويت خلال اختيار بعض أعضاء مجلس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات سنة 2013 أو بمناسبة التجديد الجزئي لمجلسها أو تسديد الشغور الحاصل بمجلسها خلال سنة 2017 واعتماد آلية التوافق في اختيار المترشح بغض النظر عما أفضت إليه عمليّة ترتيب المترشحين المقبولين أوليا من قبل اللّجنة الخاصة وهو ما يفرغ عمل هذه اللّجنة من محتواه ويحول دون اعتماد آلية ناجعة لاختيار ذوي الكفاءة والخبرة وإخضاع عمليّة اختيار أعضاء مجالس الهيئات للمحاصصة الحزبية، بالرغم من اعتماد التصويت بالأغلبية المعززة على النحو الذي يقتضيه الدستور والقوانين المتعلقة بالهيئات الدستوريّة.
ويتعزز هذا الاستنتاج من خلال طول المدة التي استغرقتها عمليات انتخاب أعضاء مجلس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات، سواء زمن إحداثها أو زمن التجديد الجزئي لمجلسها، أو بمناسبة تسديد الشغور الحاصل بها من خلال متابعة تغير نسق التصويت والأصوات المسندة للمترشحين من جلسة عامة إلى أخرى، ودون التفات إلى عمليّة الترتيب التي أفضت إليها عمليات الفرز ودراسة ملفات المترشحين من قبل اللّجنة الخاصة، ودون مبرر للتغيير الذي يطرأ على نتائج التصويت من جلسة عامة لأخرى، وهو ما ينزع على آلية إختيار المترشحين أي صبغة موضوعية ويحول دون ضمان تواجد مترشحين من ذوي الكفاءة والخبرة ضمن مجالس الهيئات مما يدعو إلى مراجعة عمليّة اختيار المترشحين وذلك عبر مراجعة السلم التقييمي المعتمد. غير أن تلك الإجراءات وعلى أهميتها فإنها لا ترتقي إلى أن تكون ضمانة كافية لتأمين اختيار مترشحين من ذوي الكفاءة والخبرة طالما أنه تم تركيز صلاحيات إعداد السلم التقييمي وصلاحية فرز ملفات المترشحين وصلاحية البت فيها وترتيب المترشحين المقبولين أوليا لشروط الترشح فضلا عن صلاحية قبول الاعتراضات على تلك القائمة والبت فيها لدى جهة وحيدة متمثلة في اللّجنة الخاصة والتي يتم ضبط تركيبتها وانتخاب أعضائها وفق قاعدة التمثيل النسببي على غرار القاعدة المعتمدة في اختيار أعضاء اللجان القارة والخاصة وبشكل يعكس تركيبة الجلسة العامة.
وهذا التركيز لصلاحيات متنافرة من شأنه أن يحول دون ضمان اختيار أعضاء من ذوي الكفاءة والخبرة ويحول دون النأي بمسار اختيار المترشحين المقبولين أوليا عن الاعتبارات الحزبية أو السياسيّة. هذا فضلا عن قصر آجال الاعتراض وعدم تعليل قرار رفض المترشحين من قبل اللّجنة ونشرها للعموم بما يكفل الحق فعليا في الاعتراض عن تلك القرارات وضمان حقوق الدفاع.
وحيث ولئن كان من المسلم به أن الجلسة العامة تتمتّع بسلطة تقديرية في عمليّة اختيار أعضاء مجالس الهيئات فإنه يتعين أن لا تفضي الملائمات التي تجريها الجلسة العامة إلى إفراغ الفصل 125 من الدستور من مضمونه الذي أكد على أنه يتم اختيار أعضاء الهيئات من ذوي الخبرة والكفاءة والنزاهة والحياد. ولتأمين احترام السلطة التشريعيّة لإرادة المؤسّس على النحو المبين سلفا فإنه يتجه التمييز بين الجهة التي تتولى تقديم الترشحات والجهة التي تتولى البت فيها على أن تتولى اللّجنة الخاصة ضبط قائمة إسمية مصغرة للمترشحين المقبولين أوليا وذلك في حدود 3 أو 4 أسماء وإحالتها على الجلسة العامة، فضلا عن ضرورة إخضاع إجراءات تقديم ودراسة الاعتراضات على القائمات الأوّلية للمترشحين والبت فيها إلى ضوابط تكفل حق الدفاع وتدعم شفافية عمل الجهة التي تتولى البت في مطالب الاعتراض وذلك على غرار :
- وجوبية نشر قرارات اللّجنة التي تتولى ضبط القائمة الأوّلية للمترشحين،
- ضبط آجال معقولة لتقديم مطالب الاعتراض،
- تمكين المعترض من الإطلاع على القرار المعترض عليه والمؤيدات التي إستند إليها اللّجنة لإصدار القرار المذكور،
- تمكينه إعداد وسائل دفاعه وتأمين جلسة للإستماع إليه قصد تقديم حججه والإداء بمؤيداته،
- ضرورة تعليل قرارات الجهة التي تتولى البت في مطالب الإعتراض ونشرها بما يكفل للمعترض من الطعن فيه أمام المحكمة المختصة وييسر عمل هذه الأخيرة في بسط رقابتها على أعمال اللّجنة.
من أجل تونس حيث يمكن للجميع العيش بكرامة