بالتأمّل في التجارب الدولية في هذا المجال، نلاحظ وجود العديد من القواسم المشتركة بين مختلف الهيئات المحدثة، فكلّها مكلّفة بإعداد استراتيجية عامة وسياسات عامة لمكافحة الفساد والتوقي منه كمتابعة تنفيذها في محاولة للحد منها، كما ركّزت مختلف التشاريع على الدور التوعوي للهيئات وعلى أهمية السياسة الاتّصالية الواجب اعتمادها في هذا الغرض، فالوكالة الفرنسية مثلا مكلّفة بإعداد مخطط وطني لمكافحة الفساد بكل أشكاله ويتمّ تطبيقه على سنوات.
وبالإطلاع على القوانين المغربية والجزائرية نلاحظ أنّها تتقارب إلى حد كبير مع التشريع التونسي، فكل هذه الهيئات مكلّفة عموما بما يلي:
- تلقّي التبليغات والشكاوى والمعلومات المتعلقة بحالات الفساد ودراستها، والتأكد من حقيقة الأفعال وإحالتها عند الاقتضاء، إلى الجهات المختصة،
- القيام بعمليات البحث والتحري عن حالات الفساد التي تصل إلى علم الهيئة،
- إعداد برامج للوقاية من جرائم الفساد والإسهام في تخليق الحياة العامة، والسهر على تنفيذها بالتنسيق مع جميع السلطات والهيئات المعنية،
- العمل على نشر قواعد الحوكمة الرشيدة والتعريف بها،
- وضع برامج للتواصل والتوعية والتحسيس ونشر قيم النزاهة والسهر على تنفيذها،
- إبداء الرأي بطلب من الحكومة، بخصوص كل برنامج أو إجراء أو مشروع أو مبادرة ترمي إلى الوقاية من الفساد أو مكافحته،
- إبداء الرأي، بطلب من الحكومة أو البرلمان، في مشاريع ومقترحات القوانين ومشاريع النصوص التنظيمية ذات الصلة بمجال الوقاية من الفساد ومكافحته، كل فيما يخصه،
- تقديم كل اقتراح أو توصية إلى الحكومة أو إلى البرلمان، تهدف إلى نشر وتعزيز قيم النزاهة والشفافية وترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة وثقافة المرفق العام وقيم المواطنة المسؤولة،
- تقديم كل مقترح أو توصية إلى الحكومة بشأن تبسيط المساطر والإجراءات الإدارية الرامية إلى الوقاية من الفساد ومكافحته،
- دراسة التقارير الصادرة عن المنظمات الدولية والإقليمية والوطنية المتعلقة بالوضع العام في مجال الفساد، واقتراح الإجراءات المناسبة وتتبّعها،
- إنجاز دراسات وتقارير حول مظاهر الفساد وسبل الوقاية منه ومكافحته ونشرها،
- تفعيل المشاركة المجتمعية في أنشطة مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة،
- اعداد تقرير سنوي حول حصيلة أنشطة الهيئة يقدّم إلى البرلمان للمناقشة،
- إقامة علاقات للتعاون مع الهيئات العمومية والمنظمات غير الحكومية والجامعات ومراكز البحوث الوطنية والدولية ذات الأهداف المماثلة في مجال الوقاية من الفساد ومكافحته وتبادل الخبرات في هذا المجال.
وفي ضوء ما تقدّم، فإنّه من أهم الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها من التجارب الدولية أنّ كل الدول قد أجمعت على الدور الوقائي الذي يجب على هياكل مكافحة الفساد القيام به بغاية الحدّ من ظاهرة اكتسحت وباتت تهدّد أغلب المجتمعات،إلا أنّه من الواضح أنّ حدّة الفساد تختلف من دولة إلى أخرى، لذلك كان لزاما على البعض منها تجاوز الجانب الوقائي بوضع قوانين زجرية من شأنها أن تعطي أكلها على المدى القصير والمتوسط في محاولة لوقف هذا النزيف ومؤازرة القضاء على الحسم في ملفّات الفساد المتراكمة وهو ما ينسحب على بلادنا.
لذلك،نلاحظ أنّه كلما استشرى الفساد في بلد ما تعيّن على السلط العمومية فيه أن تتّبع خيار الجرأة في إتخاذ إجراءات وسبل مقاومته وتفادي أنصاف الحلول التي لن تساهم إلا في تعقيد الوضع وتعميق المشاكل وصعوبة التأويل.
وفي هذا الإطار، ولعل ما يميّز مشروع القانون التونسي عن الكثير من التجارب المقارنة أنّه أسند لرئيس الهيئة وأعضائها صلاحية أعمال التحقيق من تفتيش وحجز للوثائق والمعدات والمنقولات، كما نص على أنّ المحاضر والتقارير المحرّرة لدى الهيئة تعتمد كحجج لا يمكن الطعن فيها إلا بالزور. فضلا عن أنّ أعوان قسم مكافحة الفساد يمارسون وظائف الضابطة العدلية من خلال تلقّي الشهادات وجمع المعلومات والأدلّة والقيام بعمليات التفتيش والحجز والاستنجاد بالقوة العامة إن اقتضى الأمر ذلك، وهو ما اعتبر في المغرب منطويا على مساس باستقلالية الهيئة على اعتبار أنّ صفة الضابطة العدلية تؤدي إلى الخضوع إلى القضاء، لذلك تمّ حصر اختصاصات هذه الأخيرة في مجال محاربة الفساد في حدود إجراء عمليات الرصد أو البحث أو التحري اللازمة من أجل التأكد من حقيقة الوقائع والأفعال وتضمين نتائج أشغالها في محاضر تحال على الجهات المختصة للتعهد.
وفي هذا الصدد، يتميّز القانون الأردني عدد 63 لسنة 2006 المتعلق بهيئة مكافحة الفساد بجرأة ملحوظة مقارنة بالتجارب الأخرى، إذ أسندت المادة 8 منه لرئيس الهيئة وأعضائها صفة الضابطة العدلية وخوّلت لهم مباشرة التحقيقات.
كما نص التشريع الأردني صلاحية وقف العمل بأيّ عقد أو اتفاق أو امتياز تمّ الحصول عليه نتيجة فعل فساد، وخوّلها ملاحقة كل من يخالف أحكام القانون وحجز أمواله المنقولة وغير المنقولة ومنعه من السفر ووقف راتبه وسائر استحقاقاته المالية....إلى غاية انتهاء إجراءات التحقيق، وهي إجراءات عملية تكتسي في تقديرنا أهمية بالغة.
واعتمدت دولة العراق تمشيا أكثر جرأة بإعطاء هيئة النزاهة صلاحيات التحقيق تحت إشراف قاضي التحقيق المختص، ويرجّح اختصاص الهيئة التحقيقي في قضية الفساد على اختصاص الجهات التحقيقية الأخرى، وأوجب القانون على قاضي التحقيق إعلام الهيئة بمباشرته للتحقيق في أيّ قضية فساد واطلاعها على سير التحقيق فيها بناء على طلب منها، كما تكون الهيئة بصفة آلية طرفا في كل قضية فساد حتى في تلك التي لم يباشر فيها التحقيق لديها، وهي وضعية قانونية تقترب من النيابة العمومية في المادة الجزائية ومن مندوب الدولة في القضاء الإداري والرابط بينهم هو الدفاع عن المجتمع والمصلحة العامة، ولها حق متابعتها بممثّل عنها كحق الطعن في الأحكام الصادرة فيها.كما يتعيّن على قاضي التحقيق تسليم قضية الفساد إلى الهيئة إن إختارت إستكمال التحقيق فيها، ولهذه الأخيرة حق الطعن في قرار رفض قاضي التحقيق تعهيدها بالملف.
وعليه، نقترح الاستلهام من التجربين الأردنية والعراقية لإضفاء النجاعة اللازمة على أعمال الهيئة التونسية باعتبار أنّ تمكينها من حق اتخاذ قرارات تحفظية إلى حين البت فيها قضائيا حتى لا تكون الهيئة مجرّد حلقة إضافية في سلسلة الجهات الإدارية والقضائية المعنية بمكافحة الفساد، ضرورة أنّ تجريدها من أيّ سلطة تقريرية يجعلنا نتساءل حول جدوى إحداثها من أساسه، علما وأنّه سبق للمشرع التونسي أن مكّن هيئة الحقيقة والكرامة من هذه الصلاحيات ولم يقع التوجّس من التدخل في المجال القضائي، كما بيّنت تجربة اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد تقلّص جدوى أعمالها في ظل غياب المتابعة وانعدام التنسيق مع الجهاز القضائي وتحديد الأدوار بينهما.
ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى أنّه تم اعتماد الجرأة منذ زمن طويل في بعض الدول الآسيوية مثل سنغافورة وهونكونغ أين تمّ إفراد أعضاء الهياكل المكلفة بمكافحة الفساد بصلاحية التحقيق في ملفات الفساد بعد أن أصبحت أعمال الضابطة العدلية الموكولة سابقا لأعوان الشرطة في قضايا الفساد محل تشكيك وريبة لدى الرأي العام، وقد أعطى هذا الخيار نتائج جدّ إيجابية، إذ أصبحت هذه البلدان تحتل المراتب الأولى عالميا في الشفافية والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد بعد عقدين من ذلك.
ولنا أن نتساءل في هذا المضمار حول أسباب عدم الاقتداء بالمثالين الأردني والعراقي وفي بعض الجوانب بالمنوال الآسيوي عند إعداد النص المتعلق بهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في تونس مع إحترام مقتضيات الدستور وخصوصيات النظام السياسي والقانوني التونسي الذي يختلف عن الأنظمة الآسيوية.
كما لا يفوتنا بأن نشير، مثلما هو الشأن في القانون المقارن، إلى وجوبية تحديد صلاحيات الهيئة في المجالات التي تقترب فيها من الصلاحيات الموكولة للسلطة القضائية باعتبار أنّ عكس ذلك سيؤدّي حتما إلى تعطيل العمل بدل تسريعه، خاصة وأنّ الواقع بيّن بأنّ كل جهة تبقى حريصة على الاحتفاظ بصلاحياتها في حين أنّ الهدف من تعهيد الهيئة بملفات الفساد هو الإسراع في حلّها في ظل تراكمها على مرّ الزمن.
وتنسحب نفس الملاحظة السابقة فيما يخص الأعمال التي تشترك فيها الهيئة مع المؤسّسات القائمة على غرار هيئات الرقابة، ذلك أنّ توخي الدقة يبقى الحل الوحيد لتلافي حالات التنافس السلبي الذي ينتج عنه تعطيل مؤكّد.
وفي هذا الإطار، جاء بالفصل 20 من مشروع القانون المعروض أنّ أعوان قسم مكافحة الفساد يتولون بوصفهم مأموري ضابطة عدلية تلقّي الشهادات وجمع المعلومات والأدلة تحت إشراف السلطة القضائية، ويمكن القول أنّ صياغة هذا الفصل تفتقر للدقة في غياب تحديد طبيعة العلاقة القائمة بين هؤلاء الأعوان التابعين للهيئة والسلطة القضائية.
في الأخير تتّجه الإشارة إلى أنّ نجاعة عمل الهيئة في مكافحة الفساد تقترن بصفة وثيقة بفعالية جهاز التحقيق بها والمنظومة القضائية ككل، لذلك وجب إرساء آليات تنسيق واضحة بين الهيئة والمحاكم التي تتعهد بقضايا الفساد ومتابعتها كتطوير الترسانة التشريعية الجزائية وتطوير آليات عمل القضاء المتخصّص في جرائم الفساد.
من أجل تونس حيث يمكن للجميع العيش بكرامة